فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنّ ناشِئة اللّيْلِ هِي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا (6)}
تعليل لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه فهي مرتبطة بجملة {قم الليل} [المزمل: 2]، أي قم الليل لأن ناشئته أشد وطْأ وأقوم قيلا.
والمعنى: أن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرّك وارتقاء بك إلى المراقي الملكية.
و{ناشئة} وصف من النشء وهو الحدوث.
وقد جرى هذا الوصف هنا على غير موصوف، وأضيف إلى الليل إضافة على معنى (في) مثل {مكر الليل}، وجعل من أقوم القيل، فعُلم أن فيه قولا وقد سبقه الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن، فتعين أن موصوفه المحذوف هو صلاة، أي الصلاة الناشئة في الليل، فإن الصلاة تشتمل على أفعال وأقوال وهي قيام.
ووصف الصلاة بالناشئة لأنها أنشأها المصلي فنشأت بعد هدأة الليل فأشبهت السحابة التي تتنشأ من الأفق بعد صحو، وإذا كانت الصلاة بعد نوم فمعنى النشْء فيها أقوى، ولذلك فسرتها عائشة بالقيام بعد النوم، وفسر ابن عباس {ناشئة الليل} بصلاة الليل كلها.
واختاره مالك.
وعن علي بن الحسين: أنها ما بين المغرب والعشاء.
وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير: أن أصل هذا معرب عن الحبشة، وقد عدها السبكي في (منظومته) في معربات القرآن.
وإيثار لفظ {ناشئة} في هذه الآية دون غيره من نحو: قيام أو تهجُد، لأجل ما يحتمله من هذه المعاني ليأخذ الناس فيه بالاجتهاد.
وقرأ جمهور العشرة {وطأ} بفتح الواو وسكون الطاء بعدها همزة، والوطء: أصله وضع الرجل على الأرض، وهو هنا مستعار لمعنى يناسب أن يكون شأنا للظلام بالليل، فيجوز أن يكون الوطء استعير لفعل من أفعال المصلي على نحو إسناد المصدر إلى فاعله، أي واطِئا أنت، فهو مستعار لتمكن المصلي من الصلاة في الليل بتفرغه لها وهدوء باله من الأشغال النهارية تمكّن الواطئ على الأرض فهو أمكن للفعل.
والمعنى: أشد وقعا، وبهذا فسره جابر بن زيد والضحاك وقاله الفراء.
ويجوز أن يكون الوطء مستعارا لحالة صلاة الليل وأثرها في المصلي، أي أشد أثر خير في نفسه وأرسخ خيرا وثوابا، وبهذا فسره قتادة.
وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وحده {وِطاء} بكسر الواو وفتح الطاء ومدها مصدر واطأ من مادة الفعال.
والوِطاء: الوفاق والملاءمة، قال تعالى: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} [التوبة: 37].
والمعنى: أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل وبحاصل هذا فسر مجاهد.
وضمير {هي} ضمير فصل، وانظر ما سيأتي عند قوله تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا} [المزمل: 20] في وقوع ضمير الفصل بين معرفة واسم تفضيل.
وضمير الفصل هنا لتقوية الحكم لا للحصر.
والأقوم: الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاح والالتواء واستعير {أقوم} للأفضل الأنفع.
و{قيلا}: القول، وأريد به قراءة القرآن لتقدم قوله: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل: 5].
فالمعنى: أن صلاة الليل أعون على تذكر القرآن والسلامة من نسيان بعض الآيات، وأعون على المزيد من التدبر.
قال ابن عباس: {وأقوم قيلا}: أدنى من أن يفقهوا القرآن.
وقال قتادة: أحفظ للقراءة، وقال ابن زيد: أقوم قراءة لفراغه من الدنيا.
وانتصب {وطْأ} و{قيلا} نسبة تمييزي ل {أشد} ول {أقوم}.
{إِنّ لك فِي النّهارِ سبْحا طوِيلا (7)}
فصل:
هذه الجملة دون عطف على ما قبلها يقتضي أن مضمونها ليس من جنس حكم ما قبلها، فليس المقصود تعيين صلاة النهار إذ لم تكن الصلوات الخمس قد فرضت يومئذٍ على المشهور، ولم يفرض حينئذٍ إلاّ قيام الليل.
فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا} [المزمل: 6] وذلك دائر: بين أن يكون تعليلا لاختيار الليل لفرض القيام عليه فِيه، فيفيد تأكيدا للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غناءه فيتحصل من المعنى: قم الليل لأن قيامه أشد وقعا وأرسخ قولا، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك.
وشغل النبي صلى الله عليه وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقاد المؤمنين المستضعفين، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل، وبيْن أن يكون تلطفا واعتذارا عن تكليفه بقيام الليل، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإِيقاع ما عسى أن يكلفه فيامُ الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه.
ويجوز أن يكون تعليلا لما تضمنه {أو انقص منه قليلا} [المزمل: 3]، أي إن نقصت من نصف الليل شيئا لا يفُتْك ثواب عمله، فإن لك في النهار متسعا للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شُكورا} [الفرقان: 62].
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلّى} [العلق: 9، 10].
وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ.
ويظهر أن يكون كل هذا مقصودا لأنه مما تسمح به دلالة كلمة {سبحا طويلا} وهي من بليغ الإِيجاز.
والسبح: أصله العوم، أي السلوك بالجسم في ماء كثير، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياءُ السير في الأرض.
وقريب من هذه الاستعارة استعارة السبح لجري الفرس دون كلفة في وصف امرئ القيس الخيل بالسابحات في قوله في مدح فرسه:
مُسح إذا ما السابحات على الونى ** أثْرْن الغُبار في الكديد المركّل

فعبر عن الجاريات بالسابحات.
وفسر ابن عباس السبح بالفراغ، أي لينام في النهار، وقال ابن وهب عن ابن زيد قال: فراغا طويلا لحوائجك فافرغ لدينك بالليل.
والطويل: وصف من الطول، وهو ازدياد امتداد القامة أو الطريق أو الثوب على مقاديرِ أكثرِ أمثاله.
فالطول من صفات الذوات، وشاع وصف الزمان به يقال: ليل طويل وفي الحديث: «الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه»
وأما وصف السّبح بـ (طويل) في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه.
وبعد هذا ففي قوله: {طويلا} ترشيح لاستعارة السّبح للعمل في النهار.
{واذْكُرِ اسْم ربِّك وتبتّلْ إِليْهِ تبْتِيلا (8)}
عطف على {قم الليل} [المزمل: 2] وقصد بإطلاق الأمر عن تعيين زمان إلى إفادة تعميمه، أي اذكر اسم ربك في الليل وفي النهار كقوله: {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا} [الإنسان: 25].
وإقحام كلمة {اسم} لأن المأمور به ذكر اللسان وهو جامع للتذكر بالعقل لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس، ألا ترى إلى قوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول} [الأعراف: 205].
والتبتل: شدة البتل، وهو مصدر تبتّل القاصر الذي هو مطاوع بتّله ف {تبتل} وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتّى كأنه فعله غيره به فطاوعه، والتبتل: الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي بـ (إلى) الدالة على الانتهاء، قال امرؤ القيس:
منارة مُمْسى راهب متبتِّل

والتبتيل: مصدر بتّل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التّقطيع.
وجيء بهذا المصدر عوضا عن التبتل للإِشارة إلى أن حُصول التبتل، أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطْع.
ولما كان التبتيل قائما بالمتبتل تعين أن تبتيله قطعه نفسه عن غير من تبتل هو إليه فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين {تبتل} و{تبتيلا} مشير إلى إراضة النفس على ذلك التبتل.
وفيه مع ذلك وفاء بِرعي الفواصل التي قبله.
والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجّة المشركين ولذلك قيل {وتبتل إليه} أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله.
وكذلك منعشات الروح البريئة من الإِثم مثل الطِّيب، وتزوج النساء، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه، وقد قال: «حُبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب».
وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإِعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة.
وفي حديث سعْد في (الصحيح) «ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذِن له لاختصينا» يعني ردّ عليه استشارته في الإِعراض عن النساء.
ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإِشراك، وهو معنى الحنيفيّة، ولذلك عقب قوله: {وتبتل إليه تبتيلا} بقوله: {ربّ المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو}.
وخلاصة المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن لا تخلو أوقاته عن إقبال على عبادة الله ومراقبته والانقطاع للدعوة لدين الحق، وإذ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم من قبلُ غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنّث في غار حراء ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة.
فالأمر في قوله: {واذكر اسم ربّك وتبتّل إليه} مراد به الدوام على ذلك فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل فإن في سورة القلم (51) (وقد نزلت قبل المزمل) {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر} على أن القرآن الذي أنزل أولا أكثره إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم إلى طرائق دعوة الرسالة فلذلك كان غالب ما في هذه السورِ الأوللِ منه مقتصرا على سن التكاليف الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم ووصف الله بأنه {ربّ المشرق والمغرب} لمناسبة الأمر بذكره في الليل وذكرِه في النهار وهما وقتا ابتداء غياب الشمس وطلوعها، وذلك يشعر بامتداد كل زمان منهما إلى أن يأتي ضده؛ فيصح أن يكون المشرق والمغرب جهتي الشروق والغروب، فيكون لاستيعاب جهات الأرض، أي رب جميع العالم وذلك يشعر بوقتي الشروق والغروب.
ويصح أن يراد بهما وقتا الشروق والغروب، أي مبدأ ذينك الوقتين ومُنتهاهما، كما يقال: سبحوا لله كلّ مشرق شمس، وكما يقال: صلاة المغرب.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر برفع {ربُّ} على أنه خبر لمبتدأ محذوف حذفا جرى على الاستعمال في مثله مما يسبق في الكلام حديث عنه.
ثم أريد الإِخبار عنه بخبر جامع لصفاته، وهو من قبيل النعت المقطوع المرفوع بتقدير مبتدأ.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بخفض {ربِّ} على البدل من {ربِّك}.
وعُقِّب وصفُ الله بـ {رب المشرق والمغرب} بالإِخبار عنه أو بوصفه بأنه لا إله إلاّ هو لأن تفرده بالإلهية بمنزلة النتيجة لربوبية المشرق والمغرب فلما كانت ربُوبيته للعالم لا ينازع فيها المشركون أعقبت بما يقتضي إبطال دعوى المشركين تعدد الآلهة بقوله: {لا إله إلاّ هو} تعريضا بهم في أثناء الكلام وإن كان الكلام مسوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فرع عليه قوله: {فاتخذه وكيلا} وإذ كان الأمر باتخاذ وكيلا مسببا عن كونه لا إله إلاّ هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره، إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلا.
والوكيل: الذي يُوكل إليه الأمور، أي يُفوض إلى تصرفه، ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول المشركين فيه اغتم لذلك، وقد روي أن ذلك سبب تزمله من موْجدة الحزن فأمره الله بأن لا يعتمد إلاّ عليه، وهذا تكفل بالنصر ولذلك عقب بقوله: {واصبر على ما يقولون} [المزمل: 10].
{واصْبِرْ على ما يقولون واهْجُرْهُمْ هجْرا جمِيلا (10)}
عطف على قوله: {فاتخذه وكيلا} [المزمل: 9]، والمناسبة أن الصبر على الأذى يستعان عليه بالتوكل على الله.
وضمير {يقولون} عائد إلى المشركين، ولم يتقدم له معاد فهو من الضمائر التي استُغني عن ذكر معادها بأنه معلوم للسامعين كما تقدم غير مرة، ومن ذلك عند قوله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة} [الجن: 16] الآيات من سورة {قل أوحى إليّ} [الجن: 1]، ولأنه سيأتي عقبه قوله: {وذرْني والمكذبين} [المزمل: 11] فيبين المراد من الضمير.
وقد مضى في السور التي نزلت قبل سورة المزمل مقالات أذى من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففي سورة العلق (9، 10) {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى} قيل هو أبو جهل تهدّد رسول الله لئن صلى في المسجد الحرام ليفْعلنّ ويفعلنّ.
وفيها: {إِن الإِنسان ليطغى أن رءاه استغنى} [العلق: 6، 7].
قيل هو الأخنس بن شريق (تنكّر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان حليفه)، وفي سورة القلم (2 15) {ما أنت بنِعْمة ربّك بمجنون} إلى قوله: {فستبصر ويُبصرون بأيكم المفتون}، وقوله: {ولا تطِع كلّ حلاّف مهين} إلى قوله: {قال أساطير الأولين} [القلم: 15] ردّا لمقالاتهم.
وفي سورة المدثر (11 25) إن كانت نزلت قبل سورة المزمل {ذرني ومن خلقت وحيدا} إلى قوله: {إِنْ هذا إلاّ قول البشر}، قيل: قائل ذلك الوليد بن المغيرة.
فلذلك أمر الله رسوله بالصبر على ما يقولون.
والهجر الجميل: هو الحسن في نوعه، فإن الأحوال والمعاني منها حسن ومنها قبيح في نوعه وقد يقال: كريم، وذميم، وخالص، وكدر، ويعْرِض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع فإذا جُردت الحقيقة عن الأعراض التي قد تعتلق بها كان نوعها خالصا، وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدّرا قبيحا، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى} [البقرة: 264]، وتقدم عند قوله تعالى: {إني أُلقِي إليّ كتاب كريم} في سورة النمل (29)، ومن هذا المعنى قوله: {فصبر جميل} في سورة يوسف (18)، وقوله فاصبر صبرا جميلا في سورة المعارج (5).
فالهجر الجميل هو الذي يقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى، ولما كان الهجر ينشأ عن بعض المهجور، أو كراهية أعماله كان معرّضا لأن يعتلق به أذى من سبّ أو ضرب أو نحو ذلك.
فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجرا جميلا، أي أن يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سبّا أو انتقاما.
وهذا الهجر: هو إمساك النبي عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى: {واصبر على ما يقولون}.
وليس منسحبا على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي.
وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعا خُلُقيا بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإِنسان في مخالطة الناس في هاتين الكلمتين لأن المرء إما أن يكون مخالطا فلابد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يرضْ نفسه بالصبر على أذاهم، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل.
{وذرْنِي والْمُكذِّبِين أُولِي النّعْمةِ ومهِّلْهُمْ قلِيلا (11)}
القول فيه كالقول في {فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث} في سورة القلم (44)، أي دعني وإياهم، أي لا تهتم بتكذيبهم ولا تشتغل بتكرير الرد عليهم ولا تغضب ولا تسبهم فأنا أكفيكهم.
وانتصب {المكذبين} على المفعول معه، والواو واو المعية.
والمكذبون هم من عناهم بضمير {يقولون} و{اهجرهم} [المزمل: 10]، وهم المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، فهو إظهار في مقام الإِضمار لإِفادة أن التكذيب هو سبب هذا التهديد.
ووصفهم بـ {أولي النّعمة} توبيخا لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم، وتهديدا لهم بأن الذي قال: {ذرني والمكذبين} سيزيل عنهم ذلك التنعم.
وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم، لأنهم كانوا يعدُّون سعة العيش ووفرة المال كمالا، وكانوا يعيّرون الذين آمنوا بالخصاصة قال تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزُون الآيات} [المطففين: 29، 30]، وقال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام} [محمد: 12].
و{النّعمة}: هنا بفتح النون باتفاق القراء.
وهي اسم للترفه، وجمعها أنعُم بفتح الهمزة وضم العين.
وأما النِّعمة بكسر النون فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإِنسان من عافية، وأمن ورزق، ونحو ذلك من الرغائب.
وجمعها: نِعم بكسر النون وفتح العين، وتجمع جمع سلامة على نِعمات بكسر النون وبفتح العين لجمهور العرب.
وتكسر العين في لغة أهل الحجاز كسْرة إِتباع.
والنُّعمة بضم النون اسم للمسرّة فيجوز أن تجمع على نُعْم على أنه اسم جمع، ويجوز أن تجمع على نُعم بضم ففتح مثل: غرفة وغرف، وهو مطرد في الوزن.
وجعلهم ذوي النّعمة المفتوحة النون للإِشارة إلى أن قُصارى حظهم في هذه الحياة هي النعمة، أي الانطلاق في العيش بلا ضيق، والاستظلال بالبيوت والجنات، والإِقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر، وهم معرضون عن كمالات النفس ولذة الاهتداء والمعرفة قال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 44] وتعريف {النّعمة} للعهد.
والتمهيل: الإِمهال الشديد، والإِمهال: التأجيل وتأخير العقوبة، وهو مترتب في المعنى على قوله: {وذرني والمكذبين}، أي وانتظر أن ننتصِرْ لك كقوله تعالى: {ولا تستعجل لهم} [الأحقاف: 35].
و{قليلا} وصف لمصدر محذوف، أي تمهيلا قليلا.
وانتصب على المفعول المطلق.
{إِنّ لديْنا أنْكالا وجحِيما (12)}
وهذا تعليل لجملة {وذرني والمكذبين} [المزمل: 11]، أي لأن لدينا ما هو أشد عليهم من ردِّك عليهم، وهذا التعليل أفاد تهديدهم بأن هذه النقم أعدت لهم لأنها لما كانت من خزائن نقمة الله تعالى كانت بحيث يضعها الله في المواضع المستأهلة لها، وهم الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، فأعد الله لهم ما يكون عليهم في الحياة الأبدية ضدا لأصول النّعمة التي خُوِّلوها، فبطِروا بها وقابلوا المنعِم بالكفران.
فالأنكال مقابل كفرانهم بنعمة الصحة والمقدرة لأن الأنكال القيود.
والجحيم: وهو نار جهنم مقابل ما كانوا عليه من لذة الاستظلال والتبرد.
والطعام: ذو الغُصة مقابل ما كانوا منهمكين فيه من أطعمتهم الهنيئة من الثمرات والمطبوخات والصيد.
والأنكال: جمع نِكْل بفتح النون وبكسرها وبسكون الكاف.
وهو القيد الثقيل.
والغُصّة بضم الغين: اسم لأثر الغصّ في الحلق وهو تردد الطعام والشراب في الحلق بحيث لا يسيغه الحلق من مرض أو حزن وعبرة.
وإضافة الطعام إلى الغُصة إضافة مجازية وهي من الإِضافة لأدنى ملابسة، فإن الغصة عارض في الحلق سببه الطعام أو الشرب الذي لا يستساغ لبشاعةٍ أو يبوسة.
والعذاب الأليم: مقابل ما في النعمة من ملاذ البشر، فإن الألم ضد اللذة.
وقد عرّف الحكماء اللذة بأنها الخلاص من الألم.
وقد جمع الأخير جمع ما يضاد معنى {النّعمة} (بالفتح).
وتنكير هذه الأجناس الأربعة لقصد تعظيمها وتهويلها، و(لدى) يجوز أن يكون على حقيقته ويقدر مضاف بينه وبين نون العظمة.
والتقدير: لدى خزائننا، أي خزائن العذاب، ويجوز أن يكون مجازا في القدرة على إيجاد ذلك متى أراد الله.
ويتعلق {يوم ترجف} بالاستقرار الذي يتضمنه خبر {إن} في قوله: {إن لدينا أنكالا}.
والرجف: الزلزلة والاضطراب، والمراد: الرجف المتكرر المستمر، وهو الذي يكون به انفراط أجزاء الأرض وانحلالها.
والكثيب: الرمل المجتمع كالربوة، أي تصير حجارةُ الجبال دُقاقا.
ومهيل: اسم فعول من هال الشيء هيلا، إذا نثره وصبّه، وأصله مهيول، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذفت الواو، لأنها زائدة ويدُلُّ عليها الضمة.
وجيء بفعل {كانت} في قوله: {وكانت الجبال كثيبا}، للإِشارة إلى تحقيق وقوعه حتى كأنه وقع في الماضي.
ووجه مخالفته لأسلوب {ترجف} أن صيرورة الجبال كثبا أمر عجيب غير معتاد، فلعله يستبعده السامعون وأما رجف الأرض فهو معروف، إلاّ أن هذا الرجف الموعود به أعظم ما عرف جنسه. اهـ.